متفرقات

غنى شريف: غزة والصمت المطبق

غزة و الصمت المطبق
غنى شريف

في الوقت الذي يستفيق فيه العالم كل صباح على صمت ثقيل، تُحاصَر غزة بأصوات الانفجارات وصدى الفقد. مشهد بات مألوفًا لسكان القطاع الذين يعيشون تحت وابل من القصف اليومي، فيما تسقط أحياء كاملة فوق رؤوس ساكنيها، ويُمحى تاريخ عائلات من سجلات الحياة في لحظة واحدة.
منذ بدء التصعيد الأخير، ارتفعت أعداد الشهداء في غزة بشكل مروّع، حيث قُتل آلاف المدنيين، أغلبهم من النساء والأطفال، في ضربات جوية استهدفت منازل ومخيمات ومدارس وملاجئ كان يُعتقد أنها آمنة. وبينما توثّق العدسات مشاهد الجثث تحت الركام وصرخات الناجين، ومشاهد المحرقة التي تُبثّ مباشرة إلى كل أنحاء العالم، يخيّم صمت دولي أقلّ ما يمكن وصفه بـ”المُطبِق” والمُخزِي.

ماذا يجري ؟ صمت أم تواطؤ؟
ان المواقف الدولية، خاصة من الدول الكبرى، لم تخرج عن دائرة التصريحات المكررة والدعوات “لضبط النفس”، فيما تتواصل عمليات القصف بلا هوادة. وقد فشلت محاولات عدة لتمرير قرارات في مجلس الأمن تطالب بوقف إطلاق النار، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام المجتمع الدولي بالقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان التي لطالما تغنى بها.
هل هي قوة الشخص أم ضعف النظام العالمي؟
ورغم تصاعد المظاهرات الضخمة في الولايات المتحدة وأوروبا، المنددة بالعدوان على غزة والمطالبة بوقف إطلاق النار، فإن إدارة ترامب وقفت عاجزة أو غير راغبة في اتخاذ موقف حاسم يضع حداً لسفك الدماء. لقد بدا واضحاً أن أصوات الملايين في الشوارع لم تكن كافية لتحريك موقف سياسي فعّال، مما يثير تساؤلات مؤلمة: هل أصبح العالم فعلاً عاجزاً أمام شخص واحد اسمه بنيامين نتنياهو؟ وهل تحوّل المجتمع الدولي إلى مجرد متفرج في وجه آلة القتل الإسرائيلية، تحت ذرائع المصالح والتحالفات؟

موقف الحكومات العربية: بين الحذر والعجز
أما الحكومات العربية، فإن مواقفها لم تخرج عن حدود بيانات الشجب والدعوات لوقف التصعيد، في وقت تُمطر فيه غزة بالنيران. وعلى الرغم من إرسال بعض المساعدات الإنسانية، فإن هذه الخطوات لم ترقَ إلى مستوى الفعل السياسي الجاد، بل بقيت تحركات محدودة لا تعبّر عن عمق الجريمة ولا عن فداحة الخسارة.
في المقابل، يُسجَّل لمصر دورها التقليدي في الوساطة، وسعيها المتكرر لفرض تهدئة، إلا أن هذا الدور، رغم ضرورته، يُمارَس في هامش ضيق تحكمه التوازنات الدولية، ولا يصل إلى حد الضغط الحقيقي على إسرائيل.
من جهة أخرى، فإن صمت بعض الأنظمة التي اختارت التطبيع، أو الاكتفاء بخطاب باهت، زاد من حجم الغضب الشعبي، وكشف عن فجوة واسعة بين المواقف الرسمية ونبض الشارع العربي الذي لم يتخلَّ عن فلسطين يومًا.

صوت من الجنوب: إسناد اليمن لغزة
من بين الأصوات القليلة التي كسرت حاجز الصمت الرسمي، برز موقف اليمن، وتحديدًا جماعة “أنصار الله” (الحوثيين)، الذين أعلنوا بوضوح دعمهم لغزة، سياسيًا وإعلاميًا، وحتى عسكريًا من خلال تهديداتهم المباشرة لإسرائيل، واستهداف مصالحها وحلفائها في البحر الأحمر. ورغم الحصار والحرب التي يعاني منها اليمن نفسه، إلا أن هذا الموقف حمل بعدًا رمزيًا قويًا، عبّر عن أن القضية الفلسطينية ما زالت حيّة في وجدان بعض القوى العربية، التي اختارت ألا تكون محايدة في وجه المجازر.

الوجه الآخر للمأساة: الكارثة الإنسانية
لم تقتصر الكارثة على القصف وحده، بل امتدت إلى أزمة إنسانية خانقة مع انقطاع الكهرباء والماء ونقص المواد الطبية والغذائية. المستشفيات تعمل فوق طاقتها، وتكافح الطواقم الطبية لإنقاذ الأرواح وسط نقصٍ حاد في الإمدادات و يقول الأطباء في أحد مستشفيات غزة: “نحن نختار من ننقذ، وهذا أمر يفوق قدرة البشر. الأطفال المصابون ينتظرون في الممرات، ولا نستطيع فعل شيء سوى البكاء بعد انتهاء دوامنا”.
الغائب الحاضر: الضمير العالمي
في كل مرة تُرتكب فيها مجازر في غزة، تعود الشعارات نفسها، والاحتجاجات الغاضبة، لكن ما يفتقده الفلسطينيون اليوم هو الفعل. فعلٌ يعترف بإنسانيتهم وحقهم في الحياة، ويكسر جدار الصمت الذي بدا وكأنه مشاركة غير معلنة في الجريمة.

يبقى السؤال قائمًا: كم من المجازر يجب أن تُرتكب قبل أن يتحرك العالم؟ وكم من الدماء يجب أن تُراق لتتغير المعادلات؟